في رحلة استطلاعيّة عبر العالم العربي، لا يمكن لرحّالة ثاقب النظر أن يمرّ مغمض العينين غير مبال بجانب ما يروق لي أن أطلق عليه لقب “آثارنا التاريخية العربية العصرية”، ألا وهو شبابنا العربي الملهم والواعد بمواهبه الكثيرة والاستثنائية. ولكن، وعلى الرغم من كونه أحد أبرز موارد المنطقة وأصولها، يواجه الشباب العربي واقعا متناميا في الصعوبة والتحدي. إذ تتسم المنطقة العربية بارتفاع شديد في أعداد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 15 والـ 25 والذين يشكلون أكثر من ثلث السكان من جهة (وذلك وفقا لمكتب المراجع السكانية)، كما تتميّز أيضا بارتفاع قياسي في نسب البطالة الشابة من جهة أخرى. وتتراوح معدلات بطالة الشباب من بلد إلى آخر في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بين 28.2 و30.5 في المئة وذلك بحسب الأرقام الصادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى ذلك، فمن المتوقع أن يدخل أكثر من 100 مليون شاب عربي سوق العمل بحلول عام 2020.
للكثيرين منا قد تبدو هذه الأرقام مجرّدة ذات وقع كبير على السمع، خفيف على الحياة العمليّة. إلّا أنّها، وبالنسبة لأولئك الذين يعيشون تحت وطأتها ويتأقلمون مع نتائجها -سواء كانوا من الشباب العاطل عن العمل أو أصحاب الشركات – فإنّها تجسّد واقعا يوميا واقتصاديا قاسيا. ويزداد هذا الواقع قساوة ويصبح أكثر مدعاة للقلق عند سماع آراء أصحاب العمل الراهنة والاضطلاع على نهجهم العازفة عن تدريب الشباب وتهيئتهم لعالم العمل المعاصر. فعلى سبيل المثال، وبحسب استطلاع رأي وايز لعام 2015 والذي أجري تحت عنوان “ربط التعليم بالعالم المعاصر”، يرى سبعة من أصل عشرة من خبراء وايز أنّ مسؤولية إعداد الشباب لسوق العمل تقع بشكل أساسي على الجامعات لا على أصحاب العمل، وترتفع نسبة الخبراء الذين يؤيدون وجهة النظر هذه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا خاصة بحيث وصلت هناك إلى 73%.
على الرغم من ذلك، لا يشكّل عزوف أصحاب العمل عن تأمين التدريب المهني للموظفين الشباب المفتقرين للخبرة العائق الوحيد الذي يواجه هؤلاء عند البحث عن وظيفة. بل تأتي هذه الظاهرة لتضاف إلى عدد من العوامل السلبية الأخرى أهمّها: قصور النظام التعليمي من حيث تصميم المنهاج وتقديمه، ضعف بنية الإعداد ما بعد الجامعي والتحضير للحياة المهنية، النقص في أنشطة التطوير المهني، وعدم التوازن بين أعداد السكان المتنامية وفرص العمل المتوفرة حاليا.
بالتالي، فإنّ الوجهة الحالية التي يسلكها أصحاب العمل، والتي تدعو إلى إنكار مسؤوليتهم تجاه تدريب الشباب استعدادا لسوق العمل تؤدي حتما إلى تعقيد الوضع الراهن. إذ يبدو من الواضح أنّ أصحاب العمل يتجاوزون عن أخذ قصور النظام التعليمي الحكومي وتأثيره السلبي على الأغلبية الساحقة من الخريجين الشباب وسعة الوقت اللازم لإجراء أي إصلاح تعليمي عملي على المستوى الحكومي بعين الاعتبار. ويبقى الواقع أنّه لا يمكن لأصحاب العمل والشباب الانتظار جيلا آخر قبل إحداث تغيير ملموس وفعال في وضع العمالة القائم في المنطقة. إذ بات عالم الأعمال اليوم يتّسم بالسرعة والتنافسية أكثر من أي وقت مضى ولابدّ للشباب العربي من اغتنام هذه السنوات الذهبية لإحداث تغيير بناء وإيجابي، بالتالي، فلا بدّ من مواجهة هذه المسألة ومعالجتها عبر جهود جماعية.
وتتترجم النوايا الحسنة الجماعية أوّلا من خلال الاعتراف بأن مسؤولية إعداد الشباب لسوق العمل ليست رهنا بعنصر واحد من المعادلة بل هو واجب يشترك فيه كلّ من الحكومات والجامعات وأرباب العمل والخريجين الشباب أنفسهم! لابدّ أيضا من الاعتراف بمواهب الشباب ورعايتها، فكما ذكر السيّد ربيع عطايا خلال قمّة وايز 2015، فإنّ “ريادة الأعمال مكرّسة داخل الثقافات المجتمعية في عالمنا العربي”. وقد تبيّن لي ذلك بشكل خاص من خلال رحلاتي المكثّفة في المنطقة والتي سمحت لي بالتعرّف على شباب من خلفيات مختلفة ومتنوّعة. بحيث تجلّى لي من خلال هذه اللقاءات أنّ شبابنا العربي لا يتحلّى بمهارات ريادة الأعمال فحسب ولكنّه يتمتّع أيضا بالقدرة على التعلّم الذاتي ومهارات الذكاء الاجتماعي والإبداع المتناهي وغيرها من الصفات المحورية لتحقيق النجاح في القرن الحادي والعشرين. فلا منأى عن الاعتراف اليوم بأنّ الشباب العربي يشكّل موردا غير مستثمر من قبل شركات الأعمال في المنطقة وأنّه بعيد كلّ البعد عن الصورة النمطية التي تجسّده خوّارا فارغ الرأس، سهل الانقياد، عديم القيمة والجدوى.
إذن، وكما ذكرت سابقا، لا يمكن للشركات في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن تنكر أو تتخلى عن مسؤوليتها تجاه تدريب الشباب العربي لسوق العمل. بل لابدّ من إدراج هذا الهدف ضمن استراتيجية المسؤولية الاجتماعية الخاصة بهذه الشركات وذلك حفاظا على قيمة الشباب الفردية وإحقاقا لجهوزيّتهم للعمل. بالمقابل، فإنه يقع على عاتق الشباب الاستفادة من فرص التطوع الهادفة (عند القدرة)، وفرص التعلّم المجانية على الانترنت (الفعالة والمقتدر على سعرها)، وفرص ريادة الأعمال للبدء في بناء ملفّ تعريفي يحتوي على تاريخ خبراتهم العمليّة السابقة (عند توفرها).
ولابدّ من أن نذكر هنا أنّ هذا التحوّل في موقف أصحاب العمل تجاه رفض تدريب الشباب وتجهيزهم بالمهارات اللازمة لسوق العمل هو موقف جديد نسبيا. ففي الواقع، عبّرت هذه الشركات نفسها في الماضي عن استعداد لتدريب الأجيال السابقة، لا سيّما جيل آباء الباحثين الحاليين عن عمل، الأمر الذي يبرر التساؤل عن الأسباب الكامنة وراء هذا التحوّل المفاجئ في الموقف. فإذا كان من المسلم به أنّ التنافسية في سوق العمل اليوم تعتمد بشكل خاص على المعارف والمهارات التي تحمل في طيّها قيمة ماديّة للشركات، إلّا أنّه يبقى من الضروري التساؤل حول ديمومة هذه الحالة. فالتنافسية الحالية في سوق العمل تقوم أيضا على الإبداع الفردي لتحقيق الريادة في السوق، والذكاء الاجتماعي لبناء قاعدة العملاء والقدرة على التعلم الذاتي لاكتساب الكفاءات التقنية. لذلك كلّه، ومالم يكن أصحاب العمل يتمتّعون بطاقة ذهنيّة لا نهائية وذكاء اجتماعي دائم التحديث ووقت غير محدود، فإنّ توفّر عنصر الشباب داخل المؤسسة هو الضمان الوحيد لخلق بيئة عمل تختزن على المقوّمات المذكورة أعلاه.
إننا نعيش اليوم في بيئة معولمة مترابطة. بعبارة أخرى فإنّ معادلة ربح الطرف الأوّل على حساب خسارة الطرف الثاني لم تعد صالحة. لذلك فلم يعد من المقبول أن يتنكّر أصحاب العمل لمسؤولياتهم تجاه تدريب الموظفين الشباب. إذ أنّ هذا الموقف المتصلّب يعكس بصيرة محدودة في استراتيجية العمل ويؤدي إلى هدر مضاعف للوقت.
لقد آن الأوان لوضع حسن نيتنا وجهدنا قيد التطبيق والعدول عن إضافة الأعباء على كاهل الشباب العاطلين عن العمل والذين هم أصلا ضحايا نظام تعليمي كهل ومتداع. فلا بد لأصحاب الأعمال أن يتذكّروا أنّهم ما ولدوا رجال ونساء أعمال مهرة وفطنين، ولكن تم تدريبهم من قبل أولئك الذين آمنوا بهم مستثمرين وقتهم ومواردهم المالية لإعدادهم. فلا مكان لقيادة ناجحة في عالم الأعمال بعيدا عن التجانس والتناسق في المبادئ والأهداف، لذلك فمن واجب أصحاب العمل أن يتحملوا الجزء الموكل إليهم من مسؤولية تدريب الشباب العربي لسوق العمل إذ أنّ هذه العناصر الشابة هي التي ستخطّ لهم التاريخ، تاريخ شركاتهم ومؤسساتهم التجارية.