كُتب هذا المقال بقلم الدكتورة رنا دجاني، مؤسسة “نحن نحب القراءة“. وقد تمّت كتابة النسخة الأصليّة باللّغة الإنكليزية لصفحة ed.review الخاصة بـ “وايز” WISE ثمّ قامت الكاتبة بترجمته إلى العربية. إضغط هنا لقراءة المقال الأصلي.
نعيش اليوم في عصرٍ تسوده التكنولوجيا، عصر أصبحت قراءة الكتب فيه من الأنشطة التي غالبا ما تعتبر مملّة ومكروهة. وبات مفهوم القراءة بهدف المتعة يعدّ أحد المفاهيم الغريبة وغير المألوفة للعديد من الأطفال حول العالم. فنجد أنّ الكتاب التقليدي قد فقد مكانته وقيمته في ظلّ اكتساح الكتب الالكترونية والحواسيب اللوحية حياتنا اليومية، دون أن ننسى دور التطبيقات الإلكترونية التعليمية في ذلك. ومن العوامل المساهمة أيضاً، ضيق الوقت الذي يخصصه البالغون للقراءة بصوتٍ عالٍ لأطفالهم أو عدم توفره أصلاً.
قد يدفعنا ذلك كلّه إلى التساؤل إن كانت القراءة بهدف المتعة مهمّة أصلا.
الإجابة بسيطة وسهلة: بالطبع نعم!
تقوم القراءة بصقل مهارات الطفل في النّقد والتفكير الإبداعي. فعندما يفتحُ الطفل كتاباً فإنّه يُبحر إلى عالم آخر من المواقف والأحداث. إذ تُعلّم القراءة الأطفال العديد من القيم والأخلاق الحميدة وتُعلمهم العديد من دروس الحياة. كما أنّ الأطفال يستمدّون صفات أخرى من أبطال القصص التي يقرأونها كالشجاعة والثقة والإلهام. فالقصص الأسطورية كالسندباد البحري خير مثال للقصص التي تعلّم الأطفال، من خلال القراءة أو السرد، الصبر والمرونة في التكيّف مع المواقف والأحداث إضافة إلى العزيمة والإصرار. فالمغامرات التي يعيشها السندباد تعتبر مصدر وحي وإلهام للأطفال وهي تدفعهم للعمل بِجِدّ لتحقيق ما يطمحون إليه، ولإيجاد حلول مبتكرة في المواقف الحرجة. كما تُبقي هذه القصص على فسحة الأمل مُنيرة في داخلهم. وهناك قصص أخرى أيضا قد تعلّم الجيل الناشىء تخطّي التحديات ومواجهة السلوكيات المجتمعية بهدف تحقيق الذات، ذلك مثل قصة “ست الكل” لتغريد النجّار.
أمّا على الصعيد الفكري، فتساعد القراءة الأطفال في بناء مخزونهم من المفردات والمعاني وتحسين مهاراتهم في قواعد اللغة، ممّا يساعدهم في التعبير عن أنفسهم بشكل أفضل سواء كان ذلك كتابياً أو شفوياً. لذلك نجد أن الأطفال الذي يحفظون القرآن بِحُكم العادات والتقاليد المتّبعة في بعض المناطق، يتمتعون بمَلَكة لغوية أكثر فصاحة ومخزونهم من المعاني أثرى وأفصح من أقرانهم مثلا.
كما يحتاج الأطفال إلى الكلمات ليصفوا العالم المحيط بهم ومكوّناته طبيعيةً كانت أم من صنع الإنسان، وذلك من أهمّ الأساسيات التي يحتاجها الطفل لتنمية الهوية والإبداع لديه. إذ يقول بروس هود (Bruce Hood)، بروفيسور في التطور النفسي في جامعة بريستول، أن التطوّر الشخصي ليس إلّا نتيجة فعلية وملموسة لتعامل الفرد مع الأشخاص من حوله واحتكاكه معهم. وكلّما زاد هذا التعامل أو الاحتكاك غنى بالمعاني والمفرادات اتسع القاموس اللغوي لدى الفرد وارتفع مستوى تطوره الشخصي. وقد أظهرت دراسات أجريت في السبعينات أنّ الأطفال الذين لديهم آباء متعلمين يتعرضون إلى عدد أكبر من الكلمات المتنوعة من الأطفال الذين لا يتمتّع آباءهم بمستوى عالٍ من التعليم. ونتيجةً لذلك، وجدت الدراسة أنّ هناك اختلاف في المستوى اللغوي لدى الأطفال في سنّ الدخول إلى المدرسة بحيث يكون بعض الأطفال متقدّمين على أقرانهم. كما بيّنت الدراسات أنّ الطريقة الوحيدة للتغلّب على هذه العقبة التعليمية هي من خلال القراءة للطفل بصوتٍ عالٍ.
إضافة إلى ذلك كلّه، تحثّ القراءة الأطفال على احترام الغير رغم الاختلاف. والاحترام من أهم الصفات والقيم الأخلاقية التي تشكّل عماد التواصل والحفاظ على السلام في العلاقات. فالقراءة تعزز صفة التعاطف عند الأطفال والبالغين. ذلك ما بيّنته دراسة أوليّة أجراها برنامج “نحن نحبّ القراءة” بالتعاون مع جين ديسيتي(Jean Decety) من قسم طب الأعصاب للأطفال في جامعة شيكاغو. وقد أشارت نتائج هذه الدراسة أنّه أثناء القراءة له، تكون جميع حواس الطفل وعواطفه حاضرة مما يؤدي إلى زيادة مستوى التعاطف مع الآخرين والاهتمام بمشاعرهم بالإضافة إلى زيادة ميوله نحو السولوكيات الاجتماعية الإيجاببية. فعلى سبيل المثال إذا شعر طفل صغير بالغيرة من أخيه المولود حديثاً، فإنّه لن يكون قادرا على التعبير عن مشاعره لأبويه أو للبالغين الموجودين حوله وذلك لأنّ شعور الغيرة غريب وغير مألوف بالنسبة له. ولكن لو قرأت له أمّه قصّة تتحدث عن الغيرة بين الإخوة فأنّه سيتمكن من الرّبط بين ما يشعر به وبين أحداث وكلمات القصّة وبالتالي سيتمكن من التعبير عن نفسه بطريقة أوضح. هذا المثل البسيط قابل للتكرر على نطاق أوسع في المجتمعات الكبيرة محققا بالتالي فائدة شاملة.
تشجيع الأطفال على القراءة
هناك العديد من البرامج التي تهدف إلى رفع مستويات القراءة من خلال توفير الكتب والتي فشلت في تحقيق هدفها. في المقابل، أظهرت الدراسات أنّ القراءة بصوت عالٍ تشكّل طريقة فعّالة لغرس حبّ القراءة لدى الأطفال. وفي الغرب يقوم الأبوان أو المعلّمون أو أمناء المكتبة بهذه المهمة؛ وعلى الرغم من تواجد هذه الشخصيات في الدول النامية إلّا أنّ الثقافة السائدة في هذه الدول لم تغرس ثقافة القراءة بصوت عالٍ في أبنائها وذلك لأنّ العديد من هؤلاء غير متعلّمين أو يفتقرون إلى مهارات وعادات القراءة.
وهذا ما ألهمني ودفعني لإبتكار مكتبة “نحن نحبّ القراءة” التي تشكل نموذجا إبداعيا، يعتبر منهاجا عمليا ومستداما، ذا جدوى اقتصادية، يستهدف الأفراد لا الإدارات، ويشمل النساء وأفراد المجتمع. يهدف هذا النموذج إلى رفع مستويات القراءة بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من أربع إلى عشر سنوات من خلال تجربة القراءة بصوت عالٍ ويدرّب نساء وشباب من المجتمع المحلّي ليقوموا بعقد جلسات للقراءة بصوت عالٍ في الأماكن العامة في أحيائهم. يختار برنامج نحن نحب القراءة كتباً جذابة للأطفال تتناسب مع الفئة العمرية المستهدفة. وتتحدث هذه الكتب عن مواضيع حيادية مكتوبة باللغة الأم التي يتحدّث بها الطفل.
بالإضافة إلى تعزيز تجربة القراءة، يقوم برنامج “نحن نحب القراءة” بتمكين السيدات اللواتي يقرأن للأطفال ليصبحن قائدات في مجتمعاتهن، كما يساعدهنّ البرنامج على تعزيز روح الملكية لدى الأطفال وسائر أعضاء المجتمع. ويمكن اعتبار هذا البرنامج منصة لنشر الوعي في عدة قضايا كالصحّة والبيئة من خلال القراءة.
يمكن استخدام هذا النموذج وتكراره في أي مكان بما في ذلك الأماكن العامة. وهو لا يحتاج إلى رفوف للكتب إذ يتمّ توزيع هذه الأخيرة على الأطفال. كلّ ما يتطلّبه المشروع مجموعة من الكتب التي يتم قراءتها باستمرار. ولا يُشترط بالنساء اللواتي يقرأن أن يكنَّ على مستوى عالٍ من التعليم. لكن كل ما يُطلب من المرأة التي يتم تدريبها هو أن تقدّم هذه الخدمة للمجتمع من خلال مشاركتها المعرفة الجديدة التي اكتسبتها وتدريب نساء أخريات ليُصبحن بدورهن قارءات ويعلّمن غيرهن وبالتالي إحداث تأثير الدومينو.
وعادةً يتمّ الترحيب بالقارئة المدرّبة لأنّها تكون أحد أفراد الحيّ. وبذلك يبدأ المجتمع بتقدير المرأة ودعم دورها كقائدة ومصدر للتغيير في كل مكان حتى في المساجد. وحالما يتفهّم المجتمع فوائد البرنامج يبدأ بالاستثمار في مجموعة الكتب وتنغرس فيه روح الملكية والمسؤولية عن المكتبة.
يهدف برنامج “نحن نحب القراءة” إلى تغيير السلوك وتعريف الناس بأن القراءة ممتعة ومسليّة. ويحقق هذا البرنامج نجاحاً وأثراً على نطاق واسع لأنه يرتكز على مبدأ بسيط وفعّال يجذب الأمّهات والأطفال. يعتمد برنامج “نحن نحب القراءة” على شبكة من النساء اللواتي يمثلن حركة أو خطوة نحو التغير الاجتماعي من خلال القراءة. ويطمح البرنامج إلى أن يُحدث تغييراً ثقافياً على المدى الطويل. يعزز برنامج “نحن نحب القراءة” إمكانيات مئات من النساء المحليّات ويمكّنهنّ من أن يكنّ مبدعات بما يعود عليهنّ بالفائدة.
الحركات الإجتماعية، كما يصفها تشارلز ليدبيتر(Charles Leadbeater)، خبيرالإبتكار في التعليم، بحاجة إلى دافع وقيم وأهداف مشتركة لتوحّد الناس فيما بينهم وتعطيهم غاية. القراءة هي الوسيلة أما الدافع فهو جعل الأطفال يدركون أنّه بإمكانهم بل ويتوجب عليهم التفكير بشكل مستقل. تم تصميم النموذج بطريقة تمكّن كل شخص من استخدامه بالطريقة التي تناسب ثقافته واحتياجاته مع الحفاظ على جوهر النموذج وهو يساعد على زرع روح ملكية المشروع لدى الفرد ويحافظ على ديمومته.
هناك نتائج ملموسة لبرنامج “نحن نحب القراءة” فهو قادر على تحويل جيل كامل من الأطفال إلى قارئين يحبون القراءة ويولعون بها في فترة قصيرة. وتأسيس مكتبة في كل حيّ من أحياء هذا العالم سيكون له تأثيرا هائلا وكبيرا على التنمية الاجتماعية، بشكل لا يمكن قياسه. تطمح أسرة “نحن نحب القراءة” إلى رؤية جميع الأطفال يُحبّون القراءة. إذ نظنّ أنّه من حق كل طفل أن يشعر بالحماس والسحر والمتعة التي تبعثها قراءة الكتب. وباعتقادي فإنّ غرس مهارات المطالعة لدى الأطفال سيولّد جيلا من القرّاء وصنّاع التغيير الذين سيقومون معاً بجعل هذا العالم مكاناً أفضل للعيش.
إضغط هنا لقراءة المزيد عن برنامج “نحن نحب القراءة”.