ويمكن القول إن التدريس “التقليدي” لقواعد النحو يحقق بعضًا من هذه المهام، ولكنه ليس فعالاً. تمنح المناهج الأولوية لتعاريف المصطلحات النحوية (مثل “الجملة الفعلية” مقابل “الجملة الاسمية”)، وتفرض على الأطفال حفظ هذه التعاريف قبل تمكنهم من تطبيقها واستخدامها. والواقع أن هذه المصطلحات عادة ما تكون غير ضرورية، ويضيع شرحها الوقت المتاح. وكثيرًا ما تثقل هذه التعاريف والمصطلحات كاهل التلاميذ، فلا يستمتع إلا القليل منهم بقراءة اللغة العربية أو الانغماس فيها طوعًا.
ويتعين على التلاميذ العرب، مثلهم في ذلك مثل أقرانهم من الأعراق كافة، التعرف فورًا وبشكل صحيح على الحروف والكلمات المفردة، وقراءة جمل كاملة، واستيعابها، واتخاذ بعض القرارات. ويجب القيام بذلك كله في غضون 12 ثانية هي المدة المتاحة تقريبًا للذاكرة العاملة. ولكن إذا أراد التلاميذ العرب استيعاب النصوص، فإن عليهم أولاً تعلم قدر كبير من قواعد النحو والمفردات كما أوضحنا سابقًا. وتمثل هذه التعقيدات المتزامنة عبئًا يفوق قدرة آليات الذاكرة لدى الكثير من التلاميذ، وبالتالي تكون النتيجة هي الفشل.
وتحاول الأسر المتعلمة الموسرة مساعدة أطفالها عن طريق الاهتمام بهم وتوفير الدروس الخصوصية لهم، أما الفقراء فيشاهدون أطفالهم يتأخرون عن أقرانهم ولا يستطيعون فعل شيء حيال ذلك. وبدافع من اليأس، تُلحق العديد من الأسر في دول الخليج أطفالها بمدارس تعتمد اللغة الإنجليزية في التدريس، وتكون اللغة العربية فيها إحدى المواد الدراسية. ولكنهم بعد ذلك يتحسرون على خسارة أبنائهم لطلاقة التعبير باللغة العربية، ويصرخ بعضهم مطالبًا بإنقاذ اللغة العربية من هذا الوضع.
ما الحلول الممكنة إذن؟ إن النهج الافتراضي يتمثل في استبقاء اللغة العربية الفصحى كلغة للتدريس في الصف الأول. وينبغي تجريب أساليب فعالة من الناحية المعرفية لتدريس القواعد النحوية للغة العربية الفصحى لتلاميذ الصف الأول. ويمكن تعلم القدر الكافي من اللغة العربية الفصحى إذا اقتصر تعليم تلاميذ الصف الأول على اللغة والرياضيات من خلال مناهج فعالة.
أما النهج البديل فيتمثل في استخدام اللهجات العربية (اللغات العامية) في تعليم تلاميذ الصفوف الدنيا، ومنح التلاميذ وقتًا أطول لتعلم الفصحى. إن اللغات تتغير وتتطور مع تصرم القرون، ومما يتواكب مع الواقع استخدام اللغة التي يتحدث بها الناس. ومن ثمّ، يمكن لتلاميذ الصفوف الثلاثة أو الأربعة الأولى في كل دولة عربية الدراسة باللهجة المحلية، إلى جانب تعلم تصريفات وقواعد اللغة العربية الفصحى بطريقة ممنهجة تمكنهم لاحقًا من فهم النصوص المعقدة. وسوف يمثل هذا التقدم التدريجي نحو معرفة القواعد النحوية للغة العربية الفصحى تطورًا معقولاً. ولا تزال اللهجات العربية تشترك مع الفصحى من حيث الاشتقاق، ما يجعل المصدر الوحيد للمفردات المعقدة هو اللغة العربية الفصحى. فعلى سبيل المثال، قد يتمكن التلاميذ المغاربة من تحقيق نتائج في اختبار “الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم” باللغة العربية المغاربية تماثل في مستواها تلك التي يحققها التلاميذ المالطيون.
وعلى الرغم من ذلك، فإن استخدام اللهجات في التعليم الرسمي محفوف بعقبات عملية كبرى. فبعض الأصوات الموجودة في اللغات العامية لا يمكن التعبير عنها باستخدام قواعد القراءة في اللغة العربية. وقد ابتكرت أحرف ساكنة لملاءمة اللغات الأفريقية والآسيوية (مثل p وv وng)، ولكن يندر ابتكار أحرف متحركة مثل e وo. وبناء على ذلك، لن يستطيع التلاميذ الاستغناء أبدًا عن الحركات (وهي علامات تشكيل توضع فوق الحرف أو تحته للدلالة على الأصوات المتحركة القصيرة)، ما يؤدي إلى إبطاء عملية القراءة والكتابة. وينطوي بزوغ نجم وسائل التواصل الاجتماعي وتكنولوجيا الاتصالات وانتشارهما على تأثيرات لغوية واسعة النطاق ومثيرة للاهتمام، حيث تظهر رموز جديدة للأحرف من أجل كتابة الرسائل النصية على الهواتف، وهذه الرموز تستخدم خليطًا من الأحرف اللاتينية والأرقام. ولكن لا يوجد حاليًا نظام رسمي للتهجي يتوافق بشكل جيد مع اللهجات العربية. وقد تشكل اللغة الديفيهية المستخدمة في جزر المالديف مصدر إلهام فيما يخص كتابة الأحرف المتحركة في اللهجات العربية؛ فأحرف هذه اللغة أخذت عن اللغة العربية حوالي القرن الثالث عشر، ولعل ما نتج عن ذلك يمثل النموذج الأبسط بين الأحرف المستخدمة في الكتابة على الإطلاق.*
ومن المؤكد أن ثمة بواعث قلق ثقافية ودينية تكتنف استخدام اللهجات أو اللغات العامية؛ فالجميع يعتبرون لغاتهم مقدسة ويتوقعون نجاح التلاميذ في تعلم مبادئ القراءة واللغة سريعًا بطريقة أو بأخرى. وقد تكون النتيجة مقاومة مستميتة لكل من التغييرات اللغوية والمقاربات التدريسية الجديدة كليًّا. ولا يقتصر هذا الشعور على العالم العربي وحده، فمن منطلق كوني يونانية كان علي خوض مرحلة التعليم الثانوي مستخدمةً “الفصحى” اليونانية، وهي صورة من صور اللغة تعتبر “نقية” (كاثاريفوسا) يعود تاريخها في الأساس إلى الحقبة الهلنستية. ويقضي التلاميذ ساعات لا أول لها ولا آخر في تعلم وضع علامات النطق لأحرف متحركة أصبحت مهجورة منذ القرن الثالث الميلادي. وأخيرًا في عام 1976، وبعد قرن كامل من الحروب اللغوية، تخلت الحكومة اليونانية عن لغة الكاثاريفوسا “النقية” باعتبارها لغة التدريس، وفي عام 1982 قامت الحكومة بإصلاح نظام التهجي وأسقطت علامات النطق عن الأحرف المتحركة. ومن حينها لم يتحسر على الماضي إلا أقل القليل.
هل تستطيع الدول العربية اتخاذ مثل هذه القرارات الصعبة، خاصة في هذه الحقبة من التاريخ؟ إن البيئة السياسية والدينية معقدة، والحلول التقنية قد لا تكون قابلة للتطبيق. ولكن لا يزال ثمة إمكانيات مهمة لا تجري دراستها حاليًا؛ فدولة قطر تمتلك القوة السياسية والثقافية لمقاربة التعليم من منظور العلم، كما يمكنها أن تكون القوة الدافعة لتعزيز السياسات التي تؤدي إلى تحسين أداء التلاميذ العرب.
http://www.al-fanarmedia.org/2016/02/does-cognitive-science-hold-the-solution-for-the-arab-education-lag
والموقع الإلكتروني:
http://www.al-fanarmedia.org/2016/05/learning-arabic-back-to-basics-may-be-the-best-innovation
*لمعرفة المزيد عن أحرف اللغة الديفيهية، يمكنكم زيارة الموقع الإلكتروني:
http://www.omniglot.com/writing/thaana.htm