تقع مالطا في وسط البحر الأبيض المتوسط، وهي بلد شاعري خلاب يقطنه حوالي 412 ألف نسمة. وإذ ينصت العرب الذين يزورون البلاد إلى حديث سكانها، فإنهم يستمعون إلى لغة تبدو مألوفة. والسبب في ذلك أن اللغة المالطية مشتقة من لغة الخلافة الفاطمية التي حكمت جنوب إيطاليا من القرن التاسع وحتى القرن الثاني عشر. وعلى الرغم من وجود العديد من الكلمات الإيطالية والإنجليزية في اللغة المالطية (فقد ظلت مالطا خاضعة للحكم البريطاني حتى عام 1964)، إلا أن قواعدها مستمدة من اللهجات العربية المغاربية. وتكتب اللغة المالطية بأحرف لاتينية، وتستخدم في المدارس والجهات الحكومية، وهي اللهجة العربية العامية أو الدارجة الوحيدة المستخدمة رسميًا على مستوى العالم.
ويخضع معظم تلاميذ الجزيرة لاختبارات المقارنة الدولية باللغة المالطية [الاتّجاهات في الدراسة العالمية للرّياضيات والعلوم (TIMSS)، والدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم (PIRLS)، والبرنامج الدولي لتقييم الطلبة (PISA)]. وقد حقق تلاميذ الصف الرابع الذين خاضوا اختبار “الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم” عام 2011 باللغة المالطية معدل درجات بلغ 461 درجة في المتوسط. (يبلغ متوسط الدرجات للاختبارات الثلاثة 500 درجة.) وجاءت نتائج اللغة المالطية أعلى من جميع الدول العربية، بما في ذلك دول الخليج الأكثر ثراءً بكثير من مالطا. وعلى سبيل المثال، فقد حقق تلاميذ الصف الرابع القطريون الذين خاضوا الاختبار باللغة العربية معدل درجات بلغ 393 درجة فقط.
ويسلط هذا التباين في الأداء الضوء على منحى مقلق بشدة، ألا وهو أن الدول العربية بغض النظر عن غناها أو فقرها تحرز نتائج أداء مخيبة للآمال. فقد أظهرت اختبارات القراءة الشفوية التي تدعمها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في الأردن واليمن والمغرب ومصر انتشار العجز عن فهم النصوص المكتوبة حتى بعد ثلاثة أو أربعة أعوام من الدراسة النظامية. وحسب مقياس الكفاءة المسمى “القراءة للتعلم” ضمن “الدراسة الدولية لقياس مدى تقدم القراءة في العالم”، يصنف معظم التلاميذ العرب الذين اختيروا لخوض الاختبار تحت فئة الأداء منخفض المستوى مقارنة بالمعدلات المرجعية الدولية.
ما الأسباب المحتملة لحدوث ذلك؟ تلقي العديد من المقالات والمدونات باللوم على الحوافز الاقتصادية، والعوامل السوسيولوجية، والشعور بالضجر من المدارس التقليدية، والثقافة الشفهية التي يفترض سيادتها في العالم العربي. ولكن العلوم المعرفية تطرح أسبابًا أكثر ارتباطًا بالبيولوجيا البشرية، وهي تحديدًا العمليات الأساسية للإدراك والذاكرة التي تمكّن البشر من معالجة المعلومات. ونعرض فيما يلي الأسباب التي تجعل هذه المتغيرات وثيقة الصلة بالتلاميذ العرب.
إننا كقرّاء متمرسين لا ندرك الأحرف في واقع الأمر، بل نقوم لحظيًا بتمييز النص المكتوب واللغة، ثم نستغرق معظم الوقت المتاح لوعينا في التفكير فيما نقرأه. ولكننا في الواقع نمضي اللحظات القليلة الأولى في عبور نفق مظلم، ويحدث ذلك عند استخدامنا للذاكرة الإجرائية التي تحتوي على المعرفة المرتبطة بأشكال الأحرف، وكيفية ارتباط الأصوات بهذه الأحرف، وما تقوله اللغة، وأي التوليفات واردة الحدوث وأيها مستبعدة. ونحن لا نلاحظ حدوث ذلك؛ فالذاكرة الإجرائية ذاكرة لاشعورية وسريعة، ولا يمكننا رصد آثارها العصبية.
يجب أن يكون استدعاء قواعد القراءة واللغة إجراءً لحظيًا لاشعوريًا، كما يجب أن تلائم المعلومات “الذاكرة العاملة” لدينا، وهي تلك الذاكرة التي تحتفظ بأفكارنا الحالية. وهذه الذاكرة محدودة للغاية من حيث الحيز الزماني والمكاني؛ إذ يمكنها أن تحتفظ تقريبًا بنحو سبعة موضوعات فقط لمدة 12 ثانية. فيجب تحليل النص المكتوب وتفسيره بشكل صحيح خلال هذا الإطار الزمني، وإلا انمحت الذاكرة العاملة، وعند ذلك ينقطع تسلسل أفكارنا ولا يمكننا المضي قدمًا.
من الأيسر تعلم القراءة باللغات التي تعبر فيها الأحرف عن الأصوات بشكل منتظم. ومع المران يربط الدماغ متتاليات الرموز ليكون منها أنماطًا أطول. ويقرأ المتعلمون في البداية حرفًا حرفًا، ولكن بعد ساعات عديدة من المران ينشط في الدماغ ذاك الجزء الذي يتعرف على الكلمات وكأنها وجوه. وبعد الوصول إلى هذه المرحلة، يمكننا القراءة تلقائيًا ودون أدنى جهد بمعدل يتراوح من 45 إلى 60 كلمة في الدقيقة. وإذا كنا نعرف اللغة جيدًا، فإن بمقدورنا معالجة كميات كبيرة من النصوص.
وتشير البحوث إلى أن السمات المرئية للخط العربي تمثل تحديًا لنظام التعرف على الأحرف في الدماغ. فنحن نتمكن وبأقصى سرعة من التعرف على الأشكال التي تتكون من جزء واحد فقط، ولكن معظم الأحرف العربية تتكون من عدة أجزاء يتمايز بعضها عن البعض بموضع النقاط. وهذه السمات تحدث بطئًا عند القراءة. ولا يستطيع القارئ المتمرس إدراك الفارق في السرعة، ولكن التلاميذ الصغار يكونون أبطأ بشكل ملحوظ. وبينما تسهم الحركات في تيسير عملية تمييز الكلمات، فإنها تراكب عليها مستوى إضافيًا من الخطوط المتقطعة التي تتسبب بدورها في إبطاء عملية المعالجة البصرية. ويمكن معالجة النصوص التي تخلو من الحركات بشكل أسرع، ولكن يجب على التلاميذ أولاً أن يتعلموا توقع هذه الحركات، وذلك يتطلب معرفة متقنة باللغة وتمييزًا لحظيًا للكلمات.
وللأسف يفتقر التلاميذ في شتى بقاع العالم العربي إلى المعرفة الكافية باللغة العربية الفصحى؛ فالدراسة في البلاد العربية تتم بلغة (تعرف بالفصحى أو الفصحى الحديثة) لا يتحدثها أحد في بيته. وتشير البحوث إلى أن التلاميذ يتعاملون مع اللغة العربية الفصحى باعتبارها لغة أجنبية، ويجب تعلم قواعدها النحوية ومفرداتها وتراكيبها في المدرسة. ولكي يتسنى لتلاميذ الصف الأول فهم نص بسيط، ينبغي لهم معرفة التصريفات العشرة للفعل في المضارع والماضي مع المذكر والمؤنث والمثنى بنوعيه. بل وينتظر منهم في العديد من الدول كذلك التعامل مع تصريفات الأسماء التي كثيرًا ما تعتبر مهجورة.
وفي ظل الصعوبات التي ينفرد بها تعلم اللغة العربية كما أسلفنا، فهل يعد عمليًا أن تتوقع المدارس من الأطفال اكتساب اللغة بمعدلات سريعة؟ إن الزمن المطلوب لإتقان اللغة يعتمد على المسافة اللغوية الفاصلة بين لهجة الأطفال العامية واللغة العربية الفصحى. ويعني ذلك أن القطريين قد يحتاجون في المتوسط وقتًا أقل بكثير من المغاربة لأن لهجتهم العامية أقرب إلى اللغة العربية الفصحى.