أنا مصرية وأعتبر نفسي من المحظوظين لأنني التحقت بمدرسة دولية خاصة في مصر، وهي فرصة تعليمية نادرة وذات جودة عالية في مصر مقارنةً بنوع التعليم وجودته الذي يحصل عليه معظم الطلاب المصريون. وقد تعلمت خلال فترة المدرسة أن الحياة لا تتعلق فقط بمعرفة القراءة والكتابة والرياضيات وأن التعلم الذاتي والدافع الذاتي هما مفتاحا النجاح في الحياة والازدهار في المستقبل. وتعلمت أيضًا أن تثقيف العقل وصقل الصفات الشخصية أكثر أهميةً من مطالعة الكتب المدرسية وأداء الواجبات الدراسية المنزلية. ولن أنسى أبدًا معلمتي في الصف السادس التي تناقشت مع والديّ بشأن عدم إجباري على الحفظ، وأوضحت لهما أن زيادة كم الواجبات الدراسية المنزلية ليست مقياسًا لنجاحي كمتعلم.
إنني أمعن النظر في نظامنا التعليمي الحالي، فأجده يضم 22 مليون طالب ينتظم معظمهم في المدارس الحكومية العامة؛ فهو نظام تعليمي يضم ما يزيد عن 7 آلاف مدرسة خاصة وأكثر من 45 ألف مدرسة حكومية عامةً في 27 محافظةً وما يقرب من مليون مُعلم يعملون في نظام التعليم العام. إنه نظام يكافح من أجل تلبية حاجات المتعلمين وتزويدهم بالقدرات اللازمة ليصبحوا مواطنين مسؤولين ومنتجين في المستقبل، قادرين على تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين. لكن الفقر والفساد وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي على رأس المشكلات الكثيرة التي تعاني منها بلادنا، ويُعد التعليم عاملاً جوهريًا في إعداد الأجيال القادمة وتحميلهم المسؤولية عن تحقيق مستقبل أفضل.
يتمثل التحدي الرئيس الذي يواجه مسيرة التعليم في الدول النامية مثل مصر في تقديم خدمات تعليمية جيدة للجماهير، وبمعنى آخر كيف نصل بالرسالة التعليمية إلى الملايين من الطلاب مع الحفاظ في الوقت نفسه على معايير جودة التعليم التي هي ليست قابلة للتحقيق فحسب بل أيضًا عمليةً، وهو السؤال الذي شغل بال العديد من المعلمين وقادة الفكر لسنوات، ولكن لم يصلوا لإجابة شافية عنه حتى الآن. ومن وجهة نظري، أن السياق هو مفتاح الإجابة عن هذا اللغز، وأن السياق هو ركيزة التعليم النوعي؛ حيث يتم ذلك من خلال فهم المتعلمين وبيئتهم وأنشطتهم الاجتماعية وحاجاتهم، وتطلعاتهم، وكيف يتصورون تعليمهم الخاص، وماذا يريدون أن يتعلموا؛ وكيف يريدون أن يتعلموا، ومن خلال معرفة كيف يرغبون في رؤية أنفسهم في المستقبل؛ ومساعدتهم على اكتساب المهارات اللازمة لرسم خارطة طريق لتحقيق أهدافهم، وربط التعليم بالبيئة والحياة اليومية للمتعلم، وربط التعليم بعالم الواقع!
وبعد أن حصلت على درجتي البكالوريوس والماجستير في هندسة الشبكات، وعملت في القطاع الخاص في شركات متعددة جنسيات وفي مؤسسات أكاديمية، قررت أن أستقيل من عملي، وبدأت في تمهيد الطريق للعمل من أجل تطوير مسيرة التعليم في مصر. وكنت قد قررت، قبل أن أشرع في الإعداد للحصول على درجة الدكتوراه، أن انضم إلى مؤسسة علمني، وهي منظمة غير ربحية يديرها الشباب، وتوليت فيها منصب مدير العمليات ضمن فريقها القيادي.
وتتطلع مؤسسة علمني إلى إعادة هيكلة نظام التعليم في مصر، وتحويل النظام التعليمي للتركيز على المهارات بدلًا من المحتوى. ويتحقق ذلك من خلال تطبيق نشاطين رئيسيين هما: أولًا؛ تأسيس مدرسة محلية للصفوف من رياض الأطفال حتى الصف الرابع في إحدى المناطق المحرومة وتضم 280 طالبًا، وهي ما نسميها “مدرستنا المختبرية”. ويتولى المجتمع المحلي إدارة المدرسة المختبرية، حيث يجري تدريب أعضاء من المجتمع المحلي على نموذج يركز على المتعلمين ويتضمن تزويدهم بمهارات القرن الحادي والعشرين مع الالتزام بالمعايير الوطنية للمناهج المصرية. ويتمثل النشاط الثاني في التواصل مع المدارس الحكومية العامة ومنح المعلمين وموظفي المدرسة رحلة تعلم تستخدم نهجًا إنسانيًا يتضمن تطبيق أفضل الممارسات من المدرسة المختبرية ويمكّنهم من تطبيق مهارات القرن الحادي والعشرين في نشاط التعلم. لقد عملنا في 170 مدرسةً، في 7 محافظات في جميع ربوع مصر، وتمكنا من الوصول إلى 5000 متعلم حتى الآن. كما أننا نجمعهم معًا في شبكة ذات مكونات متصلة بالإنترنت وأخرى غير متصلة، حيث تمكّنهم هذه الشبكة من مشاركة الموارد وأفضل الممارسات، والوصول إلى الموجهين، والتعلم من بعضهم بعضًا، مع منحهم فرصة لقاء صانعي السياسات وإجراء محادثات حقيقية حول نظام التعليم.
وقد وجدنا من خلال العمل في المدارس الحكومية العامة أن الحل لا يكمن في إنشاء عدد أكبر من المدارس وتأسيس نظم تعليمية موازية. ولن تتمكن القطاعات الاجتماعية والمدنية من إيجاد حلول للمشكلات المتعلقة بالأعداد خاصةً في دولة ذات تعداد سكاني كبير مثل مصر. ولذا، لا يُعد الالتفاف حول عيوب النظام القائم، من وجهة نظري المتواضعة، حلًا ناجعًا لتقديم خدمات تعليمية جيدة للجميع. كما أن الوصول إلى المدارس الحكومية العامة القائمة وتطويرها من الداخل مهمة مستحيلة، إلا أن ذلك لا يعني تجاهلها. وفي حين تركز معظم الجهود المبذولة على إنشاء بنى تحتية أكثر، وإعداد مناهج دراسية ذات جودة أفضل وتوفير برامج تعليمية إضافية للطلاب، وإنشاء عدد أكبر من الفصول الدراسية أو المدارس؛ يفتقد المشهد الحالي إلى العمل الحقيقي مع المعلمين أنفسهم. فنحن نتذكر جميعًا تلك الأيام الخوالي ومعلمي المدارس القديمة، بما فيها من ذكريات جميلة وإيجابية وأخرى سلبية، وتعتمل في أذهاننا بعض من الكلمات، أو العبارات، أو الأعمال الصغيرة، أو اللحظات المحددة التي شهدناها في مرحلة الطفولة. إن المعلمين هم قدوة الأطفال في مراحلهم المبكرة لسنوات عديدة؛ ولذا، فإن تذكير المعلمين بمهمتهم الأساسية والفرصة التي تُمنح لهم يوميًا للتأثير على مئات الأطفال وأنهم مثالٌ يُحتذى به يُعد مفتاحًا سريًا بسيطًا للنجاح. ويجب أن يستهدف عملنا مع المُعلمين على تمكينهم وإتاحة الفرصة المواتية لهم للابتكار، وتحويلهم إلى عوامل مُحفزة على التغيير في فصولهم الدراسية ومدارسهم ومناطقهم.
لقد لاحظنا، من خلال عملنا، وجود بعض المعلمين الذين يغيرون مواقفهم لتطوير مدارسهم ذات الموارد المحدودة لكي تصبح أنشطتهم التعليمية أكثر جاذبيةً. كما رأينا بعضًا منهم ينشئون نظام إضاءة في مكتبة المدرسة لتصنيف الكتب حسب النوع، وذلك باستخدام الموارد القليلة المتاحة. وقد اختار معلمون آخرون عدم استخدام العصي التي اعتادوا على ضرب الطلاب بها، وقرروا أن يتبعوا أسلوبًا تعليميًا أكثر تحضرُا وإنسانيةً وأن يحترموا الطلاب على الرغم من اكتظاظ الفصول الدراسية بأعداد كبيرة من الطلاب. وشاهدنا معلمين آخرين يرفضون الحصول على ترقيات على الرغم من حاجتهم إليها لزيادة دخولهم وذلك من أجل الاستمرار في إحداث تأثير إيجابي مباشر على الطلاب. ولا يتحقق الأثر الحقيقي عن طريق تعزيز المهارات التعليمية للمعلمين، ولكن بالأحرى من خلال التركيز عليهم كبشر يرغبون في أن يتم فهمهم واحترامهم والانصات إليهم. وسيصبحون بفضل ذلك أكثر تعاطفًا مع طلابهم، وسينخرطون في حياتهم، وبناء جسور التواصل بسهولة أكبر، وإضافة القيمة، وإحداث أثر إيجابي يفوق نتائج التعلم.
كانت نعمة طالبة في الصف الثاني بإحدى مدارس المناطق المحرومة في مصر؛ حيث كانت تتصف بالعدوانيةً والكسل، ولا تشارك في أية أنشطة، وتظل صامتةً معظم اليوم، وكانت تتعرض للعقاب كثيرًا بسبب أخطائها ومشاكلها. وعند تذكير معلميها بدورهم تجاهها وتدريبهم على تغيير نظرتهم إليها، مع التأكيد على إظهار الحب والتعاطف معها والاحترام لها، أصبحت نعمة أقرب إلى معلميها وأصدقائها في المدرسة، واستعادت ثقتها في البشر. تعتبر نعمة الآن واحدة من الطلاب المبتهجين والمهتمين والقادرين على تلقي الحب وإعطائه، وتقوم بكتابة رسائل شكر إلى معلميها أسبوعيًا. وقد شاركت نعمة في عرض نهاية العام على خشبة المسرح؛ بعد أن كانت لا ترغب في المشاركة حتى في الأنشطة الصفية. وهنا يظهر الفرق بوضوح، فبدلًا من أن تعيش طفولة تعيسة، وتكبر لتصبح شخصًا سلبيًا عديم المنفعة؛ قامت بتعزيز مهارات الاتصال لديها، وأصبحت قادرةً على التواصل بسهولة مع العالم من حولها، وتعكف حاليًا على اكتساب المهارات التي ستعدها لمواجهة المستقبل. وتستمتع نعمة الآن بطفولةٍ سعيدة ومريحةٍ، ليس لأنها تعيش في منزلٍ فخمٍ أو تلتحق بمدرسة راقية خاصة، بل لأن مُعلميها في تلك المدرسة المحلية يحبونها ويفهمونها ويستمعون إليها في خضم الحياة القاسية التي تعيشها.
يمكننا أن نقص قصص نجاح لا حصر لها، ولكن الإلهام الحقيقي يكمن في حقيقة أن المعلمين على استعداد لتغيير مواقفهم نحو تهيئة بيئةٍ إنسانيةٍ أفضل مع طلابهم، فقط عندما يكونون موضع تقدير ويشعرون بالأمان.
وأخيرًا، لا يعتبر الطالب والمعلم في الفصل الدراسي الطرفين الوحيدين في المعادلة، إذ يحدد السياق الحاجات والإمكانيات والطموحات؛ فما يمكن تطبيقه بنجاح في مكانٍ ما، ربما يتعذر القيام به في مكانٍ آخرٍ. لذا، ينبغي على المعلمين وقادة الفكر التركيز على فهم البيئة والتكيف مع الأمور القائمة؛ ما يسمح للمعلمين أن يكونوا مصدرًا لتقديم أفضل الممارسات والمناهج القائمة على الأدلة، وتعزيز الابتكار وأن يصبحوا قادة تربويين في المستقبل.
تظهر الحاجة إلى التعليم السياقي في عالمنا الذي يعج بالتغير المستمر، وخاصةً في الدول النامية، إذ لم يعد هذا النوع من التعليم نموذجًا تعليميًا يُحبذ اتباعه، بل أصبح ضرورةً حتمية. إن عالمنا في أمس الحاجة إلى الحد من الجوانب النظرية، والتركيز على الممارسات العملية. وعلينا أن نثق في طلابنا ومعلمينا، وأن نترك لهم المجال لتحديد المعنى الحقيقي للتعليم في واقعنا المعاصر.