غالبا ما يفتخر قادة التعليم العالي في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بادعاء أن بلادهم مهد أقدم الجامعات الموجودة في العالم المعاصر. وبالفعل، تمّ إنشاء جامعة أكسفورد عام 1167، فيما وجدت جامعة السوربون منذ عام 1160 وفتحت جامعة بولونيا أبوابها للطلّاب عام 1088. ولكن بالرغم من ذلك كلّه، فقد أثبت المؤرخون أنّ أقدم جامعة قائمة وعاملة حتّى اليوم هي في الحقيقة جامعة قرويين في مدينة فاس المغربية، والتي بدأت عملها كمؤسسة تعليمية في وقت مبكر من عام 859. كما يحقّ للعالم العربي أن يفتخر بالمساهمة التاريخية التي حققها عدد من جامعاته العريقة مثل جامعة الزيتونة في تونس، والنظامية في العراق والأزهر في القاهرة. كما اعتبرت جامعة القاهرة في الآونة الأخيرة ولعقود عدّة من القرن العشرين منارة المثقفين العرب.
على الرغم من ذلك، يواجه نظام التعليم العالي في العالم العربي اليوم تحديّات مهمّة. ففي حين تشهد أكثرية الدول في المنطقة نموّا سريعا في عدد الجامعات والطلاب، تبقى جودة التعليم وفحواه مصدرين أساسين للقلق. ففي عديد من الحالات، أدّى ضعف الانتقاء وعدم كفاية الموارد المالية إلى اكتظاظ وازدحام مفرط في المرافق التعليميّة ممّا جعلها غير ملائمة لحاجات الطلّاب. إذ تضمّ جامعة القاهرة اليوم على سبيل المثال ما يزيد عن 250 ألف طالب فيما تسجّل ما يقارب المئة ألف في جامعة الرباط بعد عمليّة دمج حديثة. ويعتمد عدد كبير من الجامعات في المنطقة على مناهج تقليدية ويتبع ممارسات تربوية متخلّفة، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات التسرب التي قد تبلغ أحيانا نصف جيل من الطلّاب. وبحسب موقع الفنار للإعلام، فقد فشل أكثر من نصف الجامعات الأردنية مؤخرا في امتحان الكفاءة الوطني الذي نظمته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي. ولا يزال البحث والعثور على وظيفة مغامرة صعبة لأعداد كبيرة من الخريجين في جميع أنحاء المنطقة. بل يجدر القول أنّ نسبة البطالة المرتفعة بين الخريجين الشباب كانت واحدة من المسببات الرئيسية لانطلاق الربيع العربي خاصة في تونس.
باختصار، يبدو واضحا أنّ إنجازات أنظمة التعليم العالي في الوطن العربي لا تتناسب مع الوزن الاقتصادي والتقاليد العلمية العريقة لهذه البلدان. فبالمقارنة مع دول منظمة التعاون الاقتصادي والاقتصادات الناشئة في جنوب شرق آسيا، مازالت الأنظمة العربية متأخرة جدا من حيث نوعية البرامج والمخرجات البحثية، وهي تعاني من مستويات عالية نسبيا من بطالة الخريجين، وتتميز بترتيبات إدارية غير ملائمة. ويخضع العديد من الجامعات الحكومية في المنطقة العربية لمصالح جماعات نافذة تقاوم التغيير، كما تعاني هذه المؤسسات من مستويات مرتفعة من الانغلاق الأكاديمي، والتقيّد بالنظم الإدارية الصارمة والبيروقراطية. كما يأتمر بعض الجامعات لمجالس علمية كبيرة تتألف من مئة عضو تقريبا، مما يجعل تبني المبادرات المبتكرة أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا.
إضافة إلى ذلك كلّه، يمثل العالم العربي 5.8٪ في المئة من سكان العالم وينتج 4.5٪ من إجمالي الناتج المحلي العالمي، إلّا أنّ عدد جامعاته التي تدخل ضمن تصنيف شنغهاي لأكبر المؤسسات التعليمية الخمس مئة في العالم لا تتعدى الـ 0.08%. وتعتبر النتائج السلبية لبلد كبير مثل مصر، والتي هي الدولة الخمسة عشر الأكثر اكتظاظا بالسكان في العالم، لافتة للنظر في تناقضها مع الأداء الرائع لبلد صغير مثل هولندا، والذي دخلت أربع من جامعاته قائمة شنغهاي لأكبر المؤسسات التعليمية المئة في العالم. بل يفوق بلد صغير مثل هونج كونج الدول العربية مجموعة معا بعدد جامعاته التي دخلت ضمن ترتيب شنغهاي.
في الوقت عينه، لا بد من الإشارة إلى عدد من التطوّرات الإيجابية في المنطقة. إذ برزت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة على وجه الخصوص لما أحرزته أفضل جامعاتها من تقدم سريع. وقد دخلت أربع جامعات سعودية ضمن تصنيف شنغهاي لأكبر المؤسسات التعليمية الخمس مئة في العالم، وتمكنت اثنتان منها الظهور ضمن مجموعة أفضل 150- 200 جامعة. وهي أيضا الدولة العربية الوحيدة المدرجة ضمن أنظمة التعليم العالي الخمسين الأفضل والتي تمّ تحديدها من قبل الاتحاد الدولي “يونيفيرسيتاس 21” في التقييم السنوي الذي أعدته جامعة ملبورن نيابة عنه. وتأتي المملكة العربية السعودية في المرتبة الـ 28 في عام 2015، بزيادة مركزين مقارنة مع عام 2014. كما ظهرت بعض الجامعات الخاصة من بلدان مختلفة مثل لبنان والأردن ومصر والمغرب كمراكز لمناهج وممارسات تربوية مبتكرة. وتشقّ جامعة الملك عبد الله، والتي هي أحدث جامعة حكومية تأسست في المملكة العربية السعودية، طريقها لتصبح سريعا مركز نفوذ علمي مميّز. ولكن لا تزال هذه الأمثلة تشكّل الاستثناء لا القاعدة.
استنادا على جميع ما تقدّم، فلا بدّ للجامعات العربية من العمل على تحقيق تطورين أساسيين إذا ما كانت تعتزم تأمين مستقبل أفضل: أوّلا، واحتذاء بما قام به عدد من دول الخليج مؤخرا، ينبغي على كل دولة صياغة رؤية شاملة وجريئة للدور المستقبلي المرجوّ للتعليم العالي، وترجمة هذه الرؤية إلى خطة استراتيجية توضح الإصلاحات الملموسة والاستثمارات والإجراءات اللازمة لتنفيذها. إذ أنّ تعزيز بنية مؤسسية متباينة، لا تتألف من جامعات قائمة على البحوث المكثفة فحسب ولكن من جامعات تتميّز بجودة تعليم عالية وكليات مجتمعيّة تركز على التدريب المهني للشباب أيضا، يشكّل عاملا مهما لتوفير فرص ذات صلة لفئة الشباب المتنامية سريعا في هذه البلدان، ولإنتاج مجموعة من المهنيين والفنيين التي يحتاجها الاقتصاد. في هذا السياق، يجب على بلدان الشمال أفريقيا والشرق الأوسط ذات الجامعات الحكومية المتعطشة للموارد أن تزيد الاستثمارات العامة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي بشكل معتبر. ثانيا، تحتاج أنظمة التعليم العالي في العالم العربي إلى تعزيز قدراتها على تصميم وتطبيق إصلاحات جذرية توافقية من أجل تحديث البنية الإدارية والإجراءات العامّة ممّا يزيد من الاستقلالية المؤسسية ويحقق الحرية الأكاديمية. ولا بدّ أن تصمم وتطبق هذه الإصلاحات بشفافية وموضوعية على أساس تقييم واقعي للحاجات والفجوات ونقاط القوى والضعف القائمة. ويبقى الحماس هو العنصر الأساسي لتحقيق التطوير، فلو أظهرت الدول العربية نفس الحماس الذي تبديه تجاه نتائج تأهلّ فرق كرة القدم الخاصة بها لبطولة كأس العالم تجاه تطوير وتحديث أنظمة التعليم العالي لكان تغيير وتحسين الواقع الحالي أيسر وأجدى!