عندما قرّر متطوّعو فريق “بسمة وزيتونة” في شهر آذار من العام 2013 تحويل فريقهم للمتطوّعين إلى مؤسّسة، لم يكن اختيارهم للعمل مع النساء كأولى خطوات المؤسسة من قبيل المصادفة. ذلك أنّ الشهور السابقة من العمل التطوّعي مع اللاجئين السوريّين في لبنان، سواء في المخيّمات العشوائيّة في البقاع أم في الضواحي الفقيرة لمدينة بيروت، أوضحت بما لا يدع مجالاً للشكّ بأنّ النساء يشكّلن إحدى الشرائح الأكثر بؤساً ما بين اللاجئين. إذ تسبّبت الحرب في سوريا في قدوم عدد كبير منهن إلى لبنان برفقة أطفالهن. وهناك توجّب عليهن مواجهة واقع اللجوء في بلد جديد لا يعرفن عنه شيئاً، ويفتقدن فيه إلى شبكات الدعم الاجتماعيّ التي توافرت لهنّ في بيئاتهن الأصليّة. عدا عن أنّه توجّب على العديد منهن التعامل مع آثار الصدمات النفسيّة التي تعرّضن لها، أو تعرّض لها أحد أفراد الأسرة بسبب المشاهد المروّعة التي شهدوها، التجارب المأساوية التي اختبروها، أو الإصابات التي تعرّضوا لها. ومتى ما تواجد رجل برفقة العائلة: أب، زوج، أو أخ، فإنّه بدا وكأنّ من المسلّم به أن تبقى المرأة طيلة النهار في الخيمة أو غرفة اللجوء –المفتقدة لأدنى مقوّمات العيش السليم، فيما يخرج الرجل بحثاً عن عمل. الأمر الذي فاقم من سوء الحالة النفسية لعدد كبير من النساء اللواتي التقينا بهن في الشهور الأولى لانطلاقة عملنا التطوّعيّ.
أراد فريق بسمة وزيتونة إذن تحدّي هذه الصورة النمطيّة، والعمل على تعزيز دور النساء من خلال تقديم الدعم النفسيّ والمعنويّ لهن. إلّا أنّ السؤال الأصعب كان من أين نبدأ وكيف؟ خلال الشهور التي سبقت قرار التحوّل إلى مؤسّسة، ظهر بين متطوّعي الفريق كثير من النقد تجاه كيفية تعاطي منظّمات الإغاثة الدوليّة مع اللاجئين السوريّين. ذلك أنّ معظم هذه المنظمات بدأ على الفور بتنفيذ برامج معدّة مسبقاً سبق وأن نُفِّذت في أفريقيا أو أفغانستان أو أيّة منطقة شهدت كارثة إنسانيّة ما. قلّة قليلة منها فقط بذلت الجهد الكافي للتعرف على السياق المحليّ الخاص بسوريا أو بلبنان، أو سؤال اللاجئين عن احتياجاتهم. لم نرغب في تكرار أخطاء هذه المنظّمات من خلال إطلاق برامج لا يُقبل عليها أحد. كنّا ندرك أنّ برامج التوعية على العنف المستند إلى النوع الاجتماعي، والتوعية حول الصحّة الجنسيّة أو الصحّة العامّة، على أهميّتها، لا تشكّل أولوية ملحّة للاجئين السوريّين في لبنان، لا سيّما في الشهور الأولى من قدومهم. كانوا بحاجة إلى أمور أكثر إلحاحاً وذات طبيعة مختلفة. إذ تبيّن لنا من خلال سؤالنا المستمرّ للنساء اللواتي التقينا بهنّ في برامجنا الإغاثيّة المختلفة، أنّ الحاجة الأكثر إلحاحاً بالنسبة لكثير منهن هي تأمين دخل إضافيّ للأسرة للمساهمة في دفع أجرة المسكن، وهي من الاحتياجات الأساسيّة التي لا تغطّيها معظم المنظّمات الإغاثيّة الدوليّة. من هنا كان قرارنا بدء مشروع تدريبيّ على التطريز اليدويّ في مخيّم شاتيلا، يساعد النساء على اكتساب مهارة جديدة ويساهم في تأمين مدخول بسيط من جهة، ومن جهة أخرى يوفّر لهن مساحة آمنة للقاء والرفقة والتحاور بعيداً عن بؤس الحياة اليوميّة ومصاعبها. هكذا انطلق مشروع ورشة التطريز في بسمة وزيتونة مع عشر نساء في مخيّم شاتيلا في أيّار من العام 2013، ليشمل اليوم أكثر من 250 سيّدة في مناطق عمل المؤسّسة المختلفة في بيروت والبقاع وطرابلس.
في الواقع، لقد كانت تجربة مشغل التطريز غنيّة وأجبرتنا على التواضع أمام عزيمة النساء العاملات. ففيما كنّا نعتقد بأنّ المشروع يخدم تلك النسوة إذ يوفّر لهنّ فرصة تعلّم مهارة يدويّة جديدة، فقد كانت النتيجة أنّنا تعلّمنا الكثير من اجتهادهن وإصراراهن على التعلّم. إذ ما أن وجدت نساء المشغل أنّ بإمكانهن صنع مطرّزات جميلة يعجب بها الناس ويشترونها لجمالها لا لكونها من صُنع نساء لاجئات، ما أن وجدن أنهنّ صرن منتجات من جديد، حتّى ازدادت ثقتهن بأنفسهن ورغبن بالمزيد. منهن على سبيل المثال آمنة -الجدّة ذات الواحد والخمسين عاماً، التي وجدت نفسها مسؤولة عن تربية حفيديها الصغيرين بعد استشهاد أبويهما في قصف طال حيّهم. آمنة كانت من أولى المنتسبات إلى دروس محو الأميّة التي افتتحتها المؤسّسة بعد بضعة شهور من افتتاح المشغل، إثر اكتشافنا أكثر من سيّدة بين العاملات لا تعرف القراءة والكتابة. أرادت آمنة أن تتعلّم في هذه السن المتقدّمة لتساعد حفيديها في دروسهم اليوميّة. كانت تعتقد ولسنين طويلة بأنّ القطار قد فاتها للتعلّم بعد كلّ هذه السنوات إلا أنّ عملها لأول مرّة في حياتها فيما يتجاوز المهام المنزليّة أثبت لها أن ثمّة على الدوام فرصة لبداية جديدة.
تحفل المراكز الاجتماعيّة لمؤسّسة بسمة وزيتونة بقصص كثيرة عن نساء مكافحات كنّ بحاجة لفرصة تُمنح لهنّ بحيث يشعرن بقيمتهن الذاتيّة فيتمكّن من الانطلاق، منها قصّة سلمى. اشتركت سلمى في برنامج المنح الصغيرة الذي أطلقته المؤسّسة السنة الماضية، وهو برنامج موجّه للنساء السوريّات، الفلسطينيّات واللبنانيّات من سكّان مخيّم شاتيلا، واللائي يرغبن بافتتاح مشاريع صغيرة ليعشن منها. يشترط البرنامج على المشتركات الخضوع لتدريب مكثّف لثلاثة أشهر، يتلقّين فيه مبادئ إدارة الأعمال والمحاسبة. قرّرت سلمى أن تستغلّ مهارتها في إطلاق ورشة صغيرة لحياكة الصوف، وقد نجحت في إنتاج مشغولات مميّزة ذات جودة عالية تمكّنت من بيعها بسهولة، كما شاركت في أكثر من معرض أقيم في بيروت لعرض منتجاتها على جمهور أوسع. رأت سلمى في مشروعها الصغير، بفضل التدريب على الإدارة، فرصة للتوسّع، فأطلقت في بيتها مبادرة لتدريب فتيات الحيّ على حياكة الصوف، فكان النجاح مزدوجاً، إذ تساعد مبادرتها في تدريب الفتيات على اكتساب مهارة تفيدهن في جني المال من جهة أولى، ومن جهة أخرى ساعدها ذلك في تأمين مزيد من العاملات المدرّبات لورشتها التي أخذت بالتوسّع تدريجيّاً.
يبقى القول أنّ برامج التطريز والخياطة، على الرغم من أنها تبدو للوهلة الأولى كما لو كانت تكرّس الأدوار الاجتماعية التقليدية للمرأة، إلّا أنّها في كثير من الأوساط التقليديّة المحافظة مقدّمة لا بدّ منها لكسر الحاجز النفسيّ سواء لدى المرأة أو أسرتها أمام فكرة الخروج من المنزل والعمل في مكان عام. إنّ عمل المرأة لا يساعد في تعزيز ثقتها بنفسها فحسب، ذلك أن خبرتنا في برامج النساء في مؤسّسة بسمة وزيتونة إنّما تؤيّد الدراسات العالمية التي ترى أنّ معظم النساء عندما يتمكّن من إيجاد مورد مادي مستقلّ يسارعن إلى استثمار ما يجنينه في تعليم أولادهن وتوفير ظروف معيشية أفضل لهم. ينعكس ذلك في إصرار أعداد متزايدة منهن على اكتساب مزيد من المهارات التي تساعدهن على الالتحاق بسوق العمل، مما يشجّعنا بدورنا على تطوير برامج تدريبيّة أكثر تعقيداً مع الوقت كما هي حال برنامج التدريب على إدارة المشاريع الصغيرة، أو برنامج تدريب صحافة المواطنين بالاشتراك مع أكاديمية دويتشه فيلله الألمانيّة. وفي حالة الحرب التي تعيشها سوريا فإنّ الاستثمار في تعليم النساء وتدريبهنّ هو الاستثمار الأفضل في مستقبل الأجيال الصاعدة وفي مستقبل سوريا في مرحلة إعادة الإعمار.